فصل: تفسير الآيات رقم (32- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 44‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ‏}‏ هذا المثل ضربه الله سبحانه لمن يتعزّز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة الفقراء فهو على هذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ‏}‏‏.‏

وقد اختلف في الرجلين هل هما مقدّران أو محققان‏؟‏ فقال بالأوّل‏:‏ بعض المفسرين‏.‏ وقال بالآخر‏:‏ بعض آخر‏.‏ واختلفوا في تعيينهما، فقيل‏:‏ هما أخوان من بني إسرائيل، وقيل‏:‏ هما أخوان مخزوميان من أهل مكة‏:‏ أحدهما مؤمن، والآخر كافر، وقيل‏:‏ هما المذكوران في سورة الصافات في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وانتصاب ‏{‏مثلاً‏}‏ و‏{‏رجلين‏}‏ على أنهما مفعولا ‏{‏اضرب‏}‏، قيل‏:‏ والأوّل هو الثاني والثاني هو الأوّل ‏{‏جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ‏}‏ هو الكافر، و‏{‏مّنْ أعناب‏}‏ بيان لما في الجنتين أي‏:‏ من كروم متنوعة ‏{‏وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ‏}‏ الحفّ‏:‏ الإحاطة، ومنه ‏{‏حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏ ويقال‏:‏ حف القوم بفلان يحفون حفاً أي‏:‏ أطافوا به، فمعنى الآية‏:‏ وجعلنا النخل مطيفاً بالجنتين من جميع جوانبهما ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا‏}‏ أي‏:‏ بين الجنتين، وهو وسطهما، ليكون كل واحد منهما جامعاً للأقوات والفواكه‏.‏ ثم أخبر سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدّي حملها وما فيها، فقال‏:‏ ‏{‏كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ أخبر عن ‏{‏كلتا‏}‏ ب ‏{‏آتت‏}‏، لأن لفظه مفرد، فراعى جانب اللفظ‏.‏ وقد ذهب البصريون إلى أن كلتا وكلا اسم مفرد غير مثنى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو مثنى‏.‏ وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ ألف كلتا للتأنيث، والتاء بدل من لام الفعل، وهي واو، والأصل كلوا‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ التاء ملحقة، وأكلهما هو‏:‏ ثمرهما، وفيه دلالة على أنه قد صار صالحاً للأكل‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود ‏(‏كل الجنتين آتى أكله‏)‏‏.‏ ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لم تنقص من أكلها شيئاً، يقال‏:‏ ظلمه حقه، أي‏:‏ نقصه، ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام، وتقلّ في عام ‏{‏وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً‏}‏ أي‏:‏ أجرينا وشققنا وسط الجنتين نهراً ليسقيهما دائماً من غير انقطاع، وقرئ ‏{‏فجرنا‏}‏ بالتشديد للمبالغة، وبالتخفيف على الأصل‏.‏ ‏{‏وَكَانَ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لصاحب الجنتين ‏{‏ثَمَرٌ‏}‏ قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق ‏{‏ثمر‏}‏ بفح الثاء والميم‏.‏ وكذلك قرؤوا في قوله‏:‏ ‏{‏أُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم فيهما‏.‏ وقرأ الباقون بضمهما جميعاً في الموضعين‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الثمرة واحدة الثمر، وجمع الثمر‏:‏ ثمار، مثل‏:‏ جبل وجبال‏.‏ قال الفراء‏:‏ وجمع الثمار‏:‏ ثمر، مثل‏:‏ كتاب وكتب، وجمع الثمر‏:‏ أثمار، مثل‏:‏ عنق وأعناق، وقيل‏:‏ الثمر‏:‏ جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، وقيل‏:‏ هو الذهب والفضة خالصة ‏{‏فَقَالَ لصاحبه‏}‏ أي‏:‏ قال صاحب الجنتين الكافر لصاحبه المؤمن ‏{‏وَهُوَ يحاوره‏}‏ أي‏:‏ والكافر يحاور المؤمن، والمعنى‏:‏ يراجعه الكلام ويجاوبه، والمحاورة‏:‏ المراجعة، والتحاور التجاوب ‏{‏أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏ النفر‏:‏ الرهط، وهو ما دون العشرة، وأراد ها هنا الأتباع والخدم والأولاد‏.‏

‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ‏}‏ أي‏:‏ دخل الكافر جنة نفسه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أخذ بيد أخيه المسلم، فأدخله جنته يطوف به فيها، ويريه عجائبها، وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه‏:‏ كونه لم يدخل أخاه إلا واحدة منهما، أو لكونهما لما اتصلا كانا كواحدة، أو لأنه أدخله في واحدة، ثم واحدة أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما‏.‏ وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف‏:‏ أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ‏}‏ في محل نصب على الحال أي‏:‏ وذلك الكافر ظالم لنفسه بكفره وعجبه ‏{‏قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً‏}‏ أي‏:‏ قال الكافر لفرط غفلته وطول أمله‏:‏ ما أظن أن تفنى هذه الجنة التي تشاهدها‏.‏ ‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ أنكر البعث بعد إنكاره لفناء جنته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا وقيام الساعة ‏{‏وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لأجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً‏}‏ اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى‏:‏ أنه إن يردّ إلى ربه فرضاً وتقديراً كما زعم صاحبه، واللام في ‏{‏لأجِدَنَّ‏}‏ جواب القسم، والشرط أي‏:‏ لأجدنّ يومئذٍ خيراً من هذه الجنة‏.‏ في مصاحف مكة والمدينة والشام ‏(‏خيراً منهما‏)‏ وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة ‏{‏خيراً منها‏}‏ على الإفراد، و‏{‏مُنْقَلَباً‏}‏ منتصب على التمييز أي‏:‏ مرجعاً وعاقبة، قال هذا قياساً للغائب على الحاضر، وأنه لما كان غنياً في الدنيا، سيكون غنياً في الأخرى، اغتراراً منه بما صار فيه من الغنى الذي هو استدراج له من الله‏.‏ ‏{‏قَالَ لَهُ صاحبه‏}‏ أي‏:‏ قال للكافر صاحبه المؤمن حال محاورته له منكراً عليه ما قاله ‏{‏أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ‏}‏ بقولك ‏{‏مَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ وقال خلقك‏:‏ من تراب أي‏:‏ جعل أصل خلقك من تراب حيث خلق أباك آدم منه، وهو أصلك، وأصل البشر فلكل فرد حظ من ذلك، وقيل‏:‏ يحتمل أنه كان كافراً بالله فأنكر عليه ما هو عليه من الكفر، ولم يقصد أن الكفر حدث له بسبب هذه المقالة ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ وهي المادّة القريبة ‏{‏ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً‏}‏ أي‏:‏ صيرك إنساناً ذكراً، وعدّل أعضاءك وكملك، وفي هذا تلويخ بالدليل على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، وانتصاب ‏{‏رجلاً‏}‏ على الحال أو التمييز‏.‏ ‏{‏لَكنا هُوَ الله رَبّى‏}‏ كذا قرأ الجمهور بإثبات الألف بعد لكنّ المشددة‏.‏

وأصله‏:‏ لكن أنا، حذفت الهمزة وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها فصار لكننا، ثم استثقلوا اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت الثانية، وضمير هو للشأن، والجملة بعده خبره والمجموع خبر أنا، والراجع ياء الضمير، وتقدير الكلام‏:‏ لكن أنا الشأن الله ربي‏.‏ قال أهل العربية‏:‏ إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف‏.‏ قال النحاس‏:‏ مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل‏:‏ لكن أنا، وذكر نحو ما قدّمنا‏.‏ وروي عن الكسائي أن الأصل‏:‏ لكن الله هو ربي أنا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إثبات الألف في لكنا في الإدراج جيد لأنها قد حذفت الألف من أنا، فجاءوا بها عوضاً، قال‏:‏ وفي قراءة أبيّ ‏(‏لكن أنا هو الله ربي‏)‏ وقرأ ابن عامر والمثنى عن نافع، وورش عن يعقوب ‏{‏لكنا‏}‏ في حال الوصل والوقف معاً بإثبات الألف، ومثله قول الشاعر‏:‏

أنا سيف العشيرة فاعرفوني *** فإني قد تذربت السناما

ومنه قول الأعشى‏:‏

فكيف أنا وألحان القوافي *** وبعد الشيب كفى ذاك عارا

ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية، وروي عن الكسائي ‏(‏لكن هو الله ربي‏)‏ ثم نفى عن نفسه الشرك بالله، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا‏}‏ وفيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركاً، ثم أقبل عليه يلومه فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله‏}‏ لولا للتحضيض، أي‏:‏ هلاّ قلت عندما دخلتها هذا القول‏.‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ «ما» في موضع رفع على معنى الأمر ما شاء الله، أي‏:‏ هلاّ قلت حين دخلتها‏:‏ الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان، ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ والخبر مقدّر، أي‏:‏ ما شاء الله كائن، ويجوز أن تكون «ما» شرطية والجواب محذوف، أي‏:‏ أيّ شيء شاء الله كان ‏{‏لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ أي‏:‏ هلا قلت‏:‏ ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله، تحضيضاً له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز، وأن ما تيسر له من عمارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوّته وقدرته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لا يقوى أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله، ولا يكون إلا ما شاء الله‏.‏ ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه على افتخاره بالمال والنفر فقال‏:‏ ‏{‏إن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا‏}‏ المفعول الأوّل‏:‏ ياء الضمير، و«أنا»‏:‏ ضمير فصل، و‏{‏أقلّ‏}‏‏:‏ المفعول الثاني للرؤية إن كانت علمية، وإن جعلت بصرية كان انتصاب أقلّ على الحال، ويجوز أن يكون ‏{‏أنا‏}‏ تأكيد لياء الضمير، وانتصاب ‏{‏مالاً‏}‏ و‏{‏ولداً‏}‏ على التمييز‏.‏ ‏{‏فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ‏}‏ هذا جواب الشرط، أي‏:‏ إن ترني أفقر منك، فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة خيراً من جنتك في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا‏}‏ أي‏:‏ ويرسل على جنتك حسباناً، والحسبان مصدر، بمعنى‏:‏ الحساب كالغفران، أي‏:‏ مقداراً قدّره الله عليها، ووقع في حسابه سبحانه، وهو الحكم بتخريبها‏.‏

قال الزجاج‏:‏ الحسبان من الحساب أي‏:‏ يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما كسبت يداك‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ حسباناً‏:‏ أي مرامي ‏{‏مّنَ السماء‏}‏ واحدها حسبانه، وكذا قال أبو عبيدة والقتيبي‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الحسبانة‏:‏ السحابة، والحسبانة‏:‏ الوسادة، والحسبانة‏:‏ الصاعقة، وقال النضر بن شميل‏:‏ الحسبان‏:‏ سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في قوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، والمعنى‏:‏ يرسل عليها مرامي من عذابه‏:‏ إما برد، وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب‏.‏ ومنه قول أبي زياد الكلابي‏:‏

أصاب الأرض حسبان *** أي‏:‏ جراد ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ أي‏:‏ فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله سبحانه عليها حسباناً صعيداً، أي‏:‏ أرضاً لا نبات بها وقد تقدّم تحقيقه ‏{‏زلقاً‏}‏ أي‏:‏ تزلّ فيها الأقدام لملاستها، يقال‏:‏ مكان زلق بالتحريك أي‏:‏ دحض، وهو في الأصل مصدر قولك زلقت رجله تزلق زلقاً وأزلقها غيره، والمزلقة‏:‏ الموضع الذي لا يثبت عليه قدم، وكذا الزلاقة، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة، أو أريد به المفعول، وجملة‏:‏ ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا‏}‏ معطوفة على الجملة التي قبلها، والغور‏:‏ الغائر‏.‏ وصف الماء بالمصدر مبالغة، والمعنى‏:‏ أنها تصير عادمة للماء بعد أن كانت واجدة له، وكان خلالها ذلك النهر يسقيها دائماً، ويجيء الغور بمعنى‏:‏ الغروب، ومنه قول أبي ذوئيب‏:‏

هل الدهر إلا ليلة ونهارها *** وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

‏{‏فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا‏}‏ أي‏:‏ لن تستطيع طلب الماء الغائر فضلاً عن وجوده وردّه ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فلن تستطيع طلب غيره عوضاً عنه‏.‏ ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ قد قدّمنا اختلاف القراء في هذا الحرف وتفسيره، وأصل الإحاطة من إحاطة العدوّ بالشخص كما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 66‏]‏، وهي عبارة عن إهلاكه وإفنائه، وهو معطوف على مقدّر كأنه قيل‏:‏ فوقع ما توقعه المؤمن وأحيط بثمره ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ‏}‏ أي‏:‏ يضرب إحدى يديه على الأخرى وهو كناية عن الندم، كأنه قيل‏:‏ فأصبح يندم ‏{‏عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في عمارتها وإصلاحها من الأموال، وقيل‏:‏ المعنى يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم‏:‏ في يده مال، وهو بعيد جداً، وجملة ‏{‏وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمهم التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوى‏:‏ إذا سقطت ولم تمطر في نوئها، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏ قيل‏:‏ وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل والزرع لأنه الأصل، وأيضاً إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي، وجملة‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا‏}‏ معطوفة على ‏{‏يقلب كفيه‏}‏، أو حال من ضميره، أي‏:‏ وهو يقول تمنى عند مشاهدته لهلاك جنته بأنه لم يشرك بالله حتى تسلم جنته من الهلاك، أو كان هذا القول منه على حقيقته، لا لما فاته من الغرض الدنيوي، بل لقصد التوبة من الشرك والندم على ما فرط منه‏.‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله‏}‏ ‏{‏فئة‏}‏ اسم كان و‏{‏له‏}‏ خبرها، و‏{‏ينصرونه‏}‏ صفةً لفئة، أي‏:‏ فئة ناصرة، ويجوز أن تكون ‏{‏ينصرونه‏}‏ الخبر، ورجح الأوّل سيبويه، ورجح الثاني المبرّد، واحتج بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ والمعنى‏:‏ أنه لم تكن له فرقة وجماعة يلتجئ إليها وينتصر بها، ولا نفعه النفر الذين افتخر بهم فيما سبق ‏{‏وَمَا كَانَ‏}‏ في نفسه ‏{‏مُنْتَصِراً‏}‏ أي‏:‏ ممتنعاً بقوته عن إهلاك الله لجنته، وانتقامه منه‏.‏ ‏{‏هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق‏}‏ قرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع نعتاً للولاية، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وعاصم وحمزة ‏{‏الحق‏}‏ بالجرّ نعته لله سبحانه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما تقول هذا لك حقاً‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي‏:‏ «الولاية» بكسر الواو، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان بمعنى، والمعنى‏:‏ هنالك، أي‏:‏ في ذلك المقام، النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره، وقيل‏:‏ هو على التقديم والتأخير، أي‏:‏ الولاية لله الحق هنالك ‏{‏هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏ أي‏:‏ هو سبحانه خير ثواباً لأوليائه في الدنيا والآخرة ‏{‏وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏ أي‏:‏ عاقبة، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة ‏{‏عقباً‏}‏ بسكون القاف، وقرأ الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد، أي‏:‏ هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال‏:‏ هذا عاقبة أمر فلان، وعقباه‏:‏ أي أخراه‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ الجنة‏:‏ هي البستان، فكان له بستان واحد وجدار واحد، وكان بينهما نهر، فلذلك كانا جنتين، ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال‏:‏ نهر أبي قرطس نهر الجنتين‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ وهو نهر مشهور بالرملة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا‏}‏ قال‏:‏ لم تنقص، كل شجر الجنة أطعم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه ‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ يقول‏:‏ مال‏.‏

وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، قال‏:‏ قرأها ابن عباس ‏"‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ‏"‏ بالضم، وقال‏:‏ هي أنواع المال‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ قال‏:‏ ذهب وفضة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ‏}‏ يقول‏:‏ كفور لنعمة ربه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت‏:‏ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ عند الكرب‏:‏ ‏"‏ الله الله ربي لا أشرك به شيئاً ‏"‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن يحيى بن سليم الطائفي عمن ذكره قال‏:‏ «طلب موسى من ربه حاجة فأبطأت عليه فقال‏:‏ ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه، فقال‏:‏ يا رب إني أطلب حاجتي منذ كذا وكذا أعطيتها الآن، فأوحى الله إليه‏:‏ يا موسى، أما علمت أن قولك ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج»‏.‏ وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوّة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته، وقرأ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ ‏"‏، وفي إسناده عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس‏.‏ قال أبو الفتح الأزدي‏:‏ عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس لا يصح حديثه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن أنس نحوه موقوفاً‏.‏ وأخرج البيهقي في الشعب عنه نحوه مرفوعاً‏.‏ وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال لي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ أن تقول‏:‏ لا قوّة إلا بالله ‏"‏ وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة‏؟‏ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ‏"‏، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في فضل هذه الكلمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ قال‏:‏ مثل الجرز‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏حُسْبَانًا مِّنَ السماء‏}‏ قال‏:‏ عذاباً ‏{‏فتصبح صعيداً زلقاً‏}‏ أي‏:‏ قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا‏}‏ أي‏:‏ ذاهباً قد غار في الأرض ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ‏}‏ قال‏:‏ يصفق ‏{‏عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا‏}‏ متلهفاً على ما فاته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال‏:‏ ‏{‏واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها، وقد تقدّم هذا المثل في سورة يونس، ثم بيّن سبحانه هذا المثل فقال‏:‏ ‏{‏كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء‏}‏ ويجوز أن يكون هذا هو المفعول الثاني ‏{‏لقوله‏}‏ اضرب على جعله بمعنى‏:‏ صير ‏{‏فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض‏}‏ أي‏:‏ اختلط بالماء نبات الأرض حتى استوى؛ وقيل‏:‏ المعنى إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر، فتكون الباء في ‏{‏به‏}‏ سببية ‏{‏فَأَصْبَحَ‏}‏ النبات ‏{‏هَشِيمًا‏}‏ الهشيم‏:‏ الكسير، وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت، ورجل هشيم‏:‏ ضعيف البدن، وتهشم عليه فلان‏:‏ إذا تعطف‏.‏ واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده، ومنه قول ابن الزبعري‏:‏

عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

‏{‏تَذْرُوهُ الرياح‏}‏ تفرقه‏.‏ قال أبو عبيدة وابن قتيبة‏:‏ تذروه‏:‏ تنسفه‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ تذهب به وتجيء، والمعنى متقارب‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرّف ‏(‏تذريه الريح‏)‏ قال الكسائي‏:‏ وفي قراءة عبد الله ‏(‏تذريه‏)‏ يقال‏:‏ ذرته الريح تذروه، وأذرته تذريه‏.‏ وحكى الفراء‏:‏ أذريت الرجل عن فرسه أي‏:‏ قلبته ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقْتَدِرًا‏}‏ أي‏:‏ على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء ‏{‏المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا‏}‏ هذا ردّ على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى ‏{‏إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله‏:‏ ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ أي‏:‏ أعمال الخير، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا‏}‏ أي‏:‏ أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثواباً، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها ‏{‏وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ أي أفضل أملاً، يعني‏:‏ أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرّج مخرج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال‏:‏ ‏{‏المال والبنون‏}‏ حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ قال‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل‏:‏ وما هنّ يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوّة إلا بالله»، وأخرج الطبراني وابن شاهين وابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ‏:‏ «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، هنّ الباقيات الصالحات» وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الصغير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «خذوا جِنَّتَكم، قيل‏:‏ يا رسول الله من أيّ عدوّ قد حضر‏؟‏ قال‏:‏ بل جِنَّتَكم من النار قول‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهنّ يأتين يوم القيامة مقدّمات معقبات ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات» وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وابن مردويه عن النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا وإن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، الباقيات الصالحات» وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أنس مرفوعاً، وزاد التكبير وسماهنّ الباقيات الصالحات‏.‏ وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أبي هريرة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً نحوه، وزادت‏:‏ «ولا حول ولا قوة إلا بالله» وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه من حديث عليّ مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً فذكر نحوه دون الحوقلة‏.‏ وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير عن ابن عمر من قوله نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس من قوله نحوه‏.‏ وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات، وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة لا فائدة في ذكرها هنا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ كل شيء من طاعة الله، فهو من الباقيات الصالحات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 53‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال‏}‏ قرأ الحسن وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ «تسير» بمثناة فوقية مضمومة وفتح الياء التحتية على البناء للمفعول، ورفع الجبال على النيابة عن الفاعل‏.‏ وقرأ ابن محيصن ومجاهد ‏(‏تسير‏)‏ بفتح التاء الفوقية والتخفيف على أن الجبال فاعل‏.‏ وقرأ الباقون ‏(‏نسير‏)‏ بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه والجبال منصوبة على المفعولية، ويناسب القراءة الأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 3‏]‏، ويناسب القراءة الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 10‏]‏، واختار القراءة الثالثة أبو عبيدة لأنها المناسبة لقوله‏:‏ ‏{‏وحشرناهم‏}‏ قال بعض النحويين‏:‏ التقدير‏:‏ والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسيّر الجبال، وقيل‏:‏ العامل في الظرف فعل محذوف، والتقدير‏:‏ واذكر يوم نسيّر الجبال، ومعنى تسيير الجبال‏:‏ إزالتها من أماكنها وتسييرها كما تسير السحاب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال‏:‏ ‏{‏وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5 6‏]‏‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للرؤية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ببروزها‏:‏ بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ ‏[‏الإنشقاق‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ وترى الأرض بارزاً ما في جوفها ‏{‏وحشرناهم‏}‏ أي‏:‏ الخلائق، ومعنى الحشر الجمع أي‏:‏ جمعناهم إلى الموقف من كل مكان ‏{‏فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً‏}‏ فلم نترك منهم أحداً، يقال‏:‏ غادره وأغدره إذا تركه، قال عنترة‏:‏

غادرته متعفراً أوصاله *** والقوم بين مجرّح ومجندل

أي‏:‏ تركته، ومنه الغدر، لأن الغادر ترك الوفاء للمغدور، قالوا‏:‏ وإنما سمي الغدير غديراً، لأن الماء ذهب وتركه، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها ‏{‏وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا‏}‏ انتصاب ‏{‏صفاً‏}‏ على الحال أي‏:‏ مصفوفين كل أمة وزمرة صف، وقيل‏:‏ عرضوا صفاً واحداً كما في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ائتوا صَفّاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 64‏]‏ أي جميعاً، وقيل‏:‏ قياماً‏.‏ وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ هو على إضمار القول، أي‏:‏ قلنا لهم لقد جئتمونا، والكاف في ‏{‏كما خلقناكم‏}‏ نعت مصدر محذوف، أي‏:‏ مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم أوّل مرّة، أو كائنين كما خلقناكم أوّل مرّة، أي‏:‏ حفاة عراة غرلاً، كما ورد ذلك في الحديث‏.‏ قال الزجاج أي‏:‏ بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله ‏{‏لقد جئتمونا‏}‏ معناه‏:‏ بعثناكم ‏{‏بَلْ زَعَمْتُمْ أن لَنْ نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا‏}‏ هذا إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث، أي‏:‏ زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا، وأن لن نجعل لكم موعداً نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ معطوفة على ‏{‏عرضوا‏}‏، والمراد بالكتاب‏:‏ صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع إما حسي بأن يوضع صحيفة كل واحد في يده‏:‏ السعيد في يمينه، والشقيّ في شماله، أو في الميزان‏.‏ وإما عقلي، أي‏:‏ أظهر عمل كل واحد من خير وشرّ بالحساب الكائن في ذلك اليوم ‏{‏فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع، والمجازاة بالعذاب الأليم ‏{‏وَيَقُولُونَ ياويلتنا‏}‏ يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك، ومعنى هذا النداء قد تقدّم تحقيقه في المائدة ‏{‏مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ أي‏:‏ أي شيء له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها وضبطها وأثبتها ‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ‏}‏ في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا ‏{‏حَاضِرًا‏}‏ مكتوباً مثبتاً ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ أي‏:‏ لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه‏.‏ ثم إنه سبحانه عاد إلى الردّ على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ‏}‏ أي‏:‏ واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم، كما مرّ تحقيقه ‏{‏فجسدوا‏}‏ طاعة لأمر الله وامتثالاً لطلبه السجود ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ فإنه أبى واستكبر ولم يسجد، وجملة ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجنّ ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى‏.‏ ومعنى ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏‏:‏ أنه خرج عن طاعة ربه‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب تقول‏:‏ فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه‏.‏ قال النحاس‏:‏ اختلف في معنى ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ على قولين‏:‏ الأوّل مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى‏:‏ أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول‏:‏ أطعمه عن جوع‏.‏ والقول الآخر قول قطرب‏:‏ أن المعنى على حذف المضاف أي‏:‏ فسق عن ترك أمره‏.‏ ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء‏}‏ كأنه قال‏:‏ أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه وتتخذون ذريته، أي‏:‏ أولاده؛ وقيل‏:‏ أتباعه مجازاً ‏{‏أولياء مِن دُونِى‏}‏ فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي، والحال أنهم أي‏:‏ إبليس وذريته ‏{‏لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ أي‏:‏ أعداء‏.‏ وأفرده لكونه اسم جنس، أو لتشبيهه بالمصادر كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُمُ العدو‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ كيف تصنعون هذا الصنع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم‏؟‏ بمن لم يكن لكم منه منفعة قط، بل هو عدوّ لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت ‏{‏بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏ أي‏:‏ الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان، فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه بدلاً عن الله سبحانه‏.‏

‏{‏مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض‏}‏ قال أكثر المفسرون‏:‏ إن الضمير للشركاء، والمعنى‏:‏ أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم لكانوا مشاهدين خلق ذلك مشاركين لي فيه، ولم يشاهدوا ذلك ولا أشهدتهم إياه أنا فليسوا لي بشركاء‏.‏ وهذا استدلال بانتفاء الملزوم المساوي على انتفاء اللازم، وقيل‏:‏ الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين، والمراد‏:‏ أنهم ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏:‏ ما اعتضدت بهم بل هم كسائر الخلق، وقيل‏:‏ المعنى أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل، لأنهم لم يكونوا مشاهدين خلق العالم، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله، والأوّل من هذه الوجوه أولى لما يلزم في الوجهين الآخرين من تفكيك الضميرين، وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور، وقرأ أبو جعفر ‏(‏ما أشهدناهم‏)‏ وقرأ الباقون ‏(‏ما أشهدتهم‏)‏ ويؤيده ‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً‏}‏ والعضد يستعمل كثيراً في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏ أي‏:‏ سنعينك ونقوّيك به، ويقال‏:‏ أعضدت بفلان‏:‏ إذا استعنت به، وذكر العضد على جهة المثل، وخصّ المضلين بالذكر لزيادة الذمّ والتوبيخ‏.‏ والمعنى‏:‏ ما استعنت على خلق السموات والأرض بهم ولا شاورتهم وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعواناً، ووحد العضد لموافقة الفواصل، وقرأ أبو جعفر الجحدري ‏(‏وما كنت‏)‏ بفتح التاء على أن الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ وما كنت يا محمد متخذاً لهم عضداً ولا صح لك ذلك، وقرأ الباقون بضم التاء‏.‏ وفي عضد لغات ثمانِ أفصحها فتح العين وضمّ الضاد، وبها قرأ الجمهور‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ «عضد» بضم العين والضاد‏.‏ وقرأ عكرمة بضم العين وإسكان الضاد، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد، وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما، ولغة تميم فتح العين وسكون الضاد‏.‏ ثم عاد سبحانه إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ قرأ حمزة ويحيى بن وثاب وعيسى بن عمر ‏"‏ نقول ‏"‏ بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية أي‏:‏ اذكر يوم يقول الله عزّ وجلّ للكفار توبيخاً لهم وتقريعاً‏:‏ نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم، وأضافهم سبحانه إلى نفسه جرياً على ما يعتقده المشركون، تعالى الله عن ذلك ‏{‏فَدَعَوْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء ‏{‏فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ‏}‏ إذ ذاك، أي‏:‏ لم يقع منهم مجرد الاستجابة لهم، فضلاً عن أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً‏}‏ أي‏:‏ جعلنا بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله موبقاً، ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم وادٍ عميق فرق الله به تعالى بينهم، وعلى هذا فهو اسم مكان‏.‏

قال ابن الأعرابي‏:‏ كل حاجز بين شيئين فهو موبق‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الموبق‏:‏ المهلك‏.‏ والمعنى‏:‏ جعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة، يقال‏:‏ وبق يوبق فهو وبق‏.‏ هكذا ذكره الفراء في المصادر‏.‏ وحكى الكسائي‏:‏ وبق يبق وبوقاً فهو وابق، والمراد بالمهلك على هذا‏:‏ هو عذاب النار يشتركون فيه‏.‏ والأوّل أولى، لأن من جملة من زعموا أنهم شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح، فالموبق‏:‏ هو المكان الحائل بينهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الموبق هنا‏:‏ الموعد للهلاك، وقد ثبت في اللغة أوبقه بمعنى‏:‏ أهلكه، ومنه قول زهير‏:‏

ومن يشتري حسن الثناء بماله *** يصن عرضه عن كل شنعاء موبق

ولكن المناسب لمعنى الآية‏:‏ هو المعنى الأوّل‏.‏ ‏{‏وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا‏}‏‏:‏ ‏{‏المجرمون‏}‏ موضوع موضع الضمير للإشارة إلى زيادة الذمّ لهم بهذا الوصف المسجل عليهم به، والظن هنا بمعنى اليقين‏.‏ والمواقعة‏:‏ المخالطة بالوقوع فيها، وقيل‏:‏ إن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون ذلك ظناً ‏{‏وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏ أي‏:‏ معدلاً يعدلون إليه، أو انصرافاً، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب‏.‏ قال الواحدي‏:‏ المصرف‏:‏ الموضع الذي ينصرف إليه‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ أي معدلاً ينصرفون إليه، وقيل‏:‏ ملجأً يلجأون إليه‏.‏ والمعنى متقارب في الجميع‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏ قال‏:‏ ليس عليها بناء ولا شجر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً‏}‏ قال‏:‏ الصغيرة التبسم، والكبيرة‏:‏ الضحك‏.‏ وزاد ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ الصغيرة‏:‏ التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة‏:‏ القهقهة بذلك‏.‏ وأقول‏:‏ صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي، فيدخل تحت ذلك كل ذنب يتصف بصغر، وكل ذنب يتصف بالكبر، فلا يبقى من الذنوب شيء إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب ملتبساً بين كونه صغيراً أو كبيراً، فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال‏:‏ إن من الملائكة قبيلة يقال لهم‏:‏ الجنّ، فكان إبليس منهم، وكان يوسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فسخط الله عليه فمسخه الله شيطاناً رجيماً‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ قال‏:‏ كان خازن الجنان، فسمي بالجانّ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً قال‏:‏ إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة، طرفة عين، إنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الإنس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ ما أشهدت الشياطين الذين اتخذتم معي هذا ‏{‏وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً‏}‏ قال‏:‏ الشياطين عضداً، قال‏:‏ ولا اتخذتهم عضداً على شيء عضدوني عليه فأعانوني‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً‏}‏ يقول‏:‏ مهلكاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وهناد، وابن المنذر عنه قال‏:‏ وادٍ في جهنم‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن أنس في الآية قال‏:‏ وادٍ في جهنم من قيح ودم‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عمرو قال‏:‏ هو وادٍ عميق في النار فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا‏}‏ قال‏:‏ علموا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 59‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم، وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا‏}‏ أي‏:‏ كرّرنا ورددنا ‏{‏فِى هذا القرآن للناس‏}‏ أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم ‏{‏مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَئ جَدَلاً‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المراد بالإنسان‏:‏ الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل‏}‏ وقيل‏:‏ المراد به في الآية‏:‏ النضر بن الحارث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً، فقال‏:‏ «ألا تصليان‏؟‏» فقلت‏:‏ يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَئ جَدَلاً‏}‏، وانتصاب جدلاً على التمييز‏.‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين‏}‏ قد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أنّ ‏(‏أن‏)‏ الأولى في محل نصب، والثانية في محل رفع، والهدى‏:‏ القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على حذف مضاف، أي‏:‏ ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ سنّتهم هو قولهم‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب‏}‏ أي‏:‏ عذاب الآخرة ‏{‏قُبُلاً‏}‏ قال الفراء‏:‏ إن قبلاً جمع قبيل، أي‏:‏ متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل‏:‏ عياناً، وقيل‏:‏ فجأة‏.‏ ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب وخلف ‏{‏قُبُلاً‏}‏ بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد‏:‏ أصناف العذاب، ويناسب التفسير الثاني، أي‏:‏ عياناً، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء أي‏:‏ مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى‏:‏ أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، وانتصابه على الحال‏.‏ فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته‏.‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين‏}‏ من رسلنا إلى الأمم ‏{‏إِلا‏}‏ حال كونهم ‏{‏مُبَشّرِينَ‏}‏ للمؤمنين ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ للكافرين‏.‏ فالاستثناء مفرّغ من أعمّ العام، وقد تقدّم تفسير هذا ‏{‏ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق‏}‏ أي‏:‏ ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض‏:‏ الزلق يقال‏:‏ دحضت رجله، أي‏:‏ زلقت تدحض دحضاً، ودحضت الشمس عن كبد السماء‏:‏ زالت، ودحضت حجته دحوضاً‏.‏ بطلت، ومن ذلك قول طرفة‏:‏

أبا منذر رمت الوفاء فهبته *** وحدت كما حاد البعير عن الدحض

ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل ‏{‏مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 154‏]‏‏.‏ ونحو ذلك‏:‏ ‏{‏واتخذوا ءاياتى‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏وَمَا أُنْذِرُواْ‏}‏ به من الوعيد والتهديد ‏{‏هزؤا‏}‏ أي‏:‏ لعباً وباطلاً، وقد تقدّم هذا في البقرة‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حقّ التدبر ويتفكر فيها حق التفكر ‏{‏وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ من الكفر والمعاصي، فلم يتب عنها‏.‏ قيل‏:‏ والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل‏:‏ هو على حقيقته ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ أي‏:‏ أغطية، والأكنة‏:‏ جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم ‏{‏وفي آذنهم وقرا‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا في آذانهم ثقلاً يمنع من استماعه، وقد تقدّم تفسير هذا في الأنعام ‏{‏وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً‏}‏ لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم‏.‏ ‏{‏وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة‏}‏ أي‏:‏ كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض ‏{‏لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب‏}‏ لاستحقاقهم لذلك ‏{‏بَلِ‏}‏ جعل ‏{‏لَّهُم مَّوْعِدٌ‏}‏ أي‏:‏ أجل مقدّر لعذابهم، قيل‏:‏ هو عذاب الآخرة، وقيل‏:‏ يوم بدر ‏{‏لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً‏}‏ أي‏:‏ ملجأً يلجئون إليه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ منجاً، وقيل‏:‏ محيصاً، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا وا ألت نفسك خليتها *** للعامريين ولم تكلم

وقال الأعشى‏:‏

وقد أخالس ربّ البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

أي ما ينجو‏.‏ ‏{‏وَتِلْكَ القرى‏}‏ أي‏:‏ قرى عاد وثمود وأمثالها ‏{‏أهلكناهم‏}‏ هذا خبر اسم الإشارة و‏{‏القرى‏}‏ صفته، والكلام على حذف مضاف، أي‏:‏ أهل القرى أهلكناهم ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ أي‏:‏ وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي ‏{‏وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا‏}‏ أي‏:‏ وقتاً معيناً، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام‏.‏

وقال الزجاج مهلك‏:‏ اسم للزمان، والتقدير‏:‏ لوقت مهلكهم‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين‏}‏ قال‏:‏ عقوبة الأولين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله‏:‏ ‏{‏قُبُلاً‏}‏ قال‏:‏ جهاراً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ فجأة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ قال‏:‏ نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة‏.‏ وأخرج أيضاً عن ابن عباس ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ يقول‏:‏ بما عملوا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي ‏{‏بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ‏}‏ قال‏:‏ الموعد يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ‏{‏مَوْئِلاً‏}‏ قال‏:‏ ملجأ‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ‏{‏مَوْئِلاً‏}‏ قال‏:‏ محرزاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 70‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ‏}‏ متعلق بفعل محذوف هو أذكر‏.‏ قيل‏:‏ ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة‏:‏ أن اليهود لما سألوا النبيّ عن قصة أصحاب الكهف وقالوا‏:‏ إن أخبركم فهو نبيّ وإلا فلا‏.‏ ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبيّ لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار‏.‏ وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هو موسى بن عمران النبيّ المرسل إلى فرعون، وقالت فرقة لا التفات إلى ما تقوله منهم نوف البكالي‏:‏ إنه ليس ابن عمران، وإنما هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب، وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد ردّه السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم كما في صحيح البخاري وغيره، والمراد بفتاه هنا هو‏:‏ يوشع بن نون‏.‏ قال الواحدي‏:‏ أجمعوا على أنه يوشع بن نون، وقد مضى ذكره في المائدة، وفي آخر سورة يوسف، ومن قال‏:‏ إن موسى هو ابن ميشى قال‏:‏ إن هذا الفتى لم يكن هو يوشع بن نون‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له يأخذ عنه العلم ويخدمه، ومعنى ‏{‏لا أَبْرَحُ‏}‏ لا أزال، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

وأبرح ما أدام الله قومي *** بحمد الله منتطقاً مجيداً

وبرح إذا كان بمعنى زال فهو من الأفعال الناقصة، وخبره هنا محذوف اعتماداً على دلالة ما بعده وهو ‏{‏حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله‏:‏ ‏{‏حتى أَبْلُغَ‏}‏ غاية مضروبة، فلا بدّ لها من ذي غاية، فالمعنى‏:‏ لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد‏:‏ لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لا أبرح‏}‏‏:‏ لا أفارقك حتى أبلغ مجمع البحرين، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون من برح التام، بمعنى‏:‏ زال يزال، ومجمع البحرين‏:‏ ملتقاهما‏.‏ قيل‏:‏ المراد بالبحرين‏:‏ بحر فارس والروم؛ وقيل‏:‏ بحر الأردن وبحر القلزم، وقيل‏:‏ مجمع البحرين عند طنجة، وقيل‏:‏ بإفريقية‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان‏.‏ وقد حكي عن ابن عباس ولا يصح‏.‏ ‏{‏أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً‏}‏ أي‏:‏ أسير زماناً طويلاً‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الحقب بالضم‏:‏ ثمانون سنة‏.‏ وقال النحاس‏:‏ الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة‏:‏ زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً منهم غير محدود، وجمعه أحقاب‏.‏ وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس‏؟‏ فقال‏:‏ أنا، فأوحى الله إليه‏:‏ إنّ أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين‏.‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا‏}‏ أي‏:‏ موسى وفتاه ‏{‏مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا‏}‏ أي‏:‏ بين البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً وقيل‏:‏ البين‏:‏ بمعنى الافتراق أي‏:‏ البحران المفترقان يجتمعان هناك، وقيل‏:‏ الضمير لموسى والخضر، أي‏:‏ وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين على هذا بمعنى الوصل، لأنه من الأضداد، والأوّل أولى ‏{‏نَسِيَا حُوتَهُمَا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إنهما تزوّدا حوتاً مملحاً في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقدانه أمارة لهما على وجدان المطلوب‏.‏ والمعنى أنهما نسيا بفقد أمره، وقيل‏:‏ الذي نسي إنما هو فتى موسى، لأنه وكل أمر الحوت إليه، وأمره أن يخبره إذا فقده، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله، فتحرّك واضطرب في المكتل، ثم انسرب في البحر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً‏}‏ انتصاب ‏{‏سرباً‏}‏ على أنه المفعول الثاني لاتخذ، أي اتخذ سبيلاً سرباً، والسرب‏:‏ النفق الذي يكون في الأرض للضبّ ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق، فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوّة المحفورة في الأرض‏.‏ قال الفراء‏:‏ لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر، ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَا‏}‏ أي‏:‏ مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة ‏{‏قَالَ لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا‏}‏ وهو ما يؤكل بالغداة، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما ‏{‏لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً‏}‏ أي‏:‏ تعباً وإعياء، قال المفسرون‏:‏ الإشارة بقوله ‏{‏سفرنا هذا‏}‏ إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة المكان المذكور، فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة‏}‏ أي‏:‏ قال فتى موسى لموسى، ومعنى الاستفهام‏:‏ تعجيبه لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك الأمر مما لا ينسى، لأنه قد شاهد أمراً عظيماً من قدرة الله الباهرة، ومفعول ‏{‏أرأيت‏}‏ محذوف لدلالة ما ذكره من النسيان عليه، والتقدير‏:‏ أرأيت ما دهاني، أو نابني في ذلك الوقت والمكان‏.‏ وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين الذي هو الموعد، وإنما ذكرها دون أن يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان، لاحتمال أن يكون المجمع مكاناً متسعاً يتناول مكان الصخرة وغيره، وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدّم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما، وأمارة لوجدان مطلوبهما‏.‏ ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان‏}‏ بما يقع منه من الوسوسة، و‏{‏أَنْ أَذْكُرَهُ‏}‏ بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه، وفي مصحف عبد الله‏:‏ وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ‏{‏واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا‏}‏ انتصاب ‏{‏عجباً‏}‏ على أنه المفعول الثاني كما مرّ في ‏{‏سرباً‏}‏، والظرف في محل نصب على الحال، يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجباً للناس، وموضع التعجب‏:‏ أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه، ثم يثب إلى البحر ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان ماء البحر، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت، فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً‏.‏

‏{‏قَالَ ذلك مَا كُنَّا نبغ‏}‏ أي، قال موسى لفتاه‏:‏ ذلك الذي ذكرت من فقد الحوت في ذلك الموضع هو الذي كنا نطلبه، فإن الرجل الذي نريده هو هنالك ‏{‏فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏ أي‏:‏ رجعا على الطريق التي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما، وانتصاب ‏{‏قصصاً‏}‏ على أنه مصدر لفعل محذوف، أو على الحال، أي‏:‏ قاصين أو مقتصين، والقصص في اللغة اتباع الأثر ‏{‏فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا‏}‏ هو الخضر في قول جمهور المفسرين، وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة، وخالف في ذلك من لا يعتدّ بقوله، فقال‏:‏ ليس هو الخضر بل عالم آخر؛ قيل‏:‏ سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله، قيل واسمه بليا بن ملكان‏.‏ ثم وصفه الله سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏آتيناه رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا‏}‏ قيل‏:‏ الرحمة هي النبوّة، وقيل‏:‏ النعمة التي أنعم الله بها عليه ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا‏}‏ وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذي استأثر به، وفي قوله ‏{‏من لدنا‏}‏ تفخيم لشأن ذلك العلم، وتعظيم له‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وفيما فعل موسى وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم، والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه‏.‏ ثم قصّ الله سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال‏:‏ ‏{‏قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً‏}‏ في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب، لأنه استأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم‏.‏ والرشد الوقوف على الخير وإصابة الصواب، وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ ل ‏{‏تعلمني‏}‏ أي‏:‏ علماً ذا رشد أرشد به، وقرئ «رشداً» بفتحتين، وهما لغتان كالبخل والبخل‏.‏ وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ أي‏:‏ قال الخضر لموسى‏:‏ إنك لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك، ثم أكد ذلك مشيراً إلى علة عدم الاستطاعة، فقال‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً‏}‏ أي‏:‏ كيف تصبر على علم ظاهره منكر، وأنت لا تعلم، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه، و‏{‏خبراً‏}‏ منتصب على التمييز، أي‏:‏ لم تحط به خبرك، والخبر‏:‏ العلم بالشيء، والخبير بالأمور هو‏:‏ العالم بخفاياها، وبما يحتاج إلى الاختبار منها‏.‏ ‏{‏قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا‏}‏ أي‏:‏ قال موسى للخضر‏:‏ ستجدني صابراً معك، ملتزماً طاعتك ‏{‏وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً‏}‏ فجملة‏:‏ ‏{‏ولا أعصي‏}‏ معطوفة على ‏{‏صابراً‏}‏، فيكون التقييد بقوله ‏{‏إن شاء الله‏}‏ شاملاً للصبر ونفي المعصية، وقيل‏:‏ إن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر، لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه في الحال، ويجاب عنه بأن الصبر، ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوم عليه في الحال، وفي كون كل واحد منهما لا يدري كيف حاله فيه في المستقبل‏.‏ ‏{‏قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ‏}‏ مما تشاهده من أفعالي المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به ‏{‏حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ أي‏:‏ حتى أكون أنا المبتدئ لك بذكره، وبيان وجهه وما يئول إليه، وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفة، لأنها جوابات عن سؤالات مقدّرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها‏.‏

وقد أخرج الدارقطني في الإفراد، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال‏.‏ وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عباس‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن مجاهد‏:‏ إنما سمي الخضر لأنه إذا صلى اخضرّ ما حوله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين‏}‏ قال‏:‏ حتى أنتهي‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مَجْمَعَ البحرين‏}‏ قال‏:‏ بحر فارس والروم، وهما نحو المشرق والمغرب‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ ‏{‏مَجْمَعَ البحرين‏}‏ إفريقية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب قال‏:‏ طنجة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً‏}‏ قال‏:‏ سبعين خريفاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ دهراً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏نَسِيَا حُوتَهُمَا‏}‏ قال‏:‏ كان مملوحاً مشقوق البطن‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً‏}‏ قال‏:‏ أثره يابس في البحر كأنه في حجر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏ قال‏:‏ عودهما على بدئهما‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا‏}‏ قال‏:‏ أعطيناه الهدى والنبوّة‏.‏

واعلم أنها قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة، وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت بعض الألفاظ، وكلها مروية من طريق سعيد بن جبير عنه، وبعضها في الصحيحين وغيرهما، وبعضها في أحدهما، وبعضها خارج عنهما‏.‏ وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، ومن طريق هارون بن عنترة، عن أبيه، عنه عند ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب، وابن عساكر، فلنقتصر على الرواية التي هي أتمّ الروايات الثابتة في الصحيحين، ففي ذلك ما يغني عن غيره، وهي‏:‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس‏:‏ كذب عدوّ الله‏.‏ حدّثنا أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل‏.‏ فسئل أيّ الناس أعلم‏؟‏ فقال‏:‏ أنا، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى‏:‏ يا رب فكيف لي به‏؟‏ قال‏:‏ تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل‏.‏ ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه‏:‏ ‏{‏آتنا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً‏}‏ قال‏:‏ ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة فَإِنّى نَسِيتُ الحوت وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا‏}‏ قال‏:‏ فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى‏:‏ ‏{‏ذلك مَا كُنَّا فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏» قال سفيان‏:‏ يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش، قال‏:‏ وكان الحوت قد أكل منه‏.‏

فلما قطر عليه الماء عاش، قال‏:‏ فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى، فقال الخضر‏:‏ وأنيّ بأرضك السلام‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى‏.‏ قال‏:‏ موسى نبي إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال‏:‏ ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ يا موسى، إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه، قال موسى‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً‏}‏ فقال له الخضر‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى‏:‏ قوم ح لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً‏}‏‏.‏ قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فكانت الأولى من موسى نسياناً ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر‏.‏ ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى‏:‏ ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ قال‏:‏ وهذه أشدّ من الأولى ‏{‏قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعما أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ‏}‏ قال‏:‏ مائل، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه، فقال موسى‏:‏ قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما»‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ وكان ابن عباس يقرأ ‏"‏ وَكَانَ أمامهم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ‏"‏ وكان يقرأ‏:‏ ‏"‏ وَأَمَّا الغلام فَكَانَ كافراً وكان أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ‏"‏ وبقية روايات سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 82‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فانطلقا‏}‏ أي‏:‏ موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة، فمرّت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فحملوهم ‏{‏حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا‏}‏ قيل‏:‏ قلع لوحاً من ألواحها، وقيل‏:‏ لوحين مما يلي الماء، وقيل‏:‏ خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏ أي‏:‏ لقد أتيت أمراً عظيماً، يقال‏:‏ أمر الأمر إذا كبر، والأمر الاسم منه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الأمر‏:‏ الداهية العظيمة وأنشد‏:‏

قد لقي الأقران مني نكرا *** داهية دهياً وأمراً إمرا

وقال القتيبي‏:‏ الأمر العجب‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أمر أمره يأمر إذا اشتد، والاسم الأمر‏.‏ قرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» بالياء التحتية المفتوحة، ورفع «أهلها» على أنه فاعل، وقرأ الباقون بالفوقية المضمومة ونصب «أهلها» على المفعولية ‏{‏قَالَ‏}‏ أي‏:‏ الخضر ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ أذكره ما تقدم من قوله له سابقاً ‏{‏إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 67‏]‏ ف ‏{‏قَالَ‏}‏ له موسى ‏{‏لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ‏}‏ يحتمل أن تكون «ما» مصدرية، أي‏:‏ لا تؤاخذني بنسياني أو موصولة، أي‏:‏ لا تؤاخذني بالذي نسيته، وهو قول الخضر ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك، أو بمعنى‏:‏ الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له، ولكنه ترك العمل به ‏{‏وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً‏}‏ قال أبو زيد‏:‏ أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك، والمعنى‏:‏ عاملني باليسر لا بالعسر‏.‏ وقرئ «عسراً» بضمتين‏.‏ ‏{‏فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ‏}‏ أي‏:‏ الخضر، ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير، قيل‏:‏ كان الغلام يلعب مع الصبيان فاقتلع الخضر رأسه ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏أَقَتَلْتَ نَفْسًا زكية بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأويس بألف بعد الزاي وتخفيف الياء اسم فاعل‏.‏ وقرأ الباقون بتشديد الياء من دون ألف، الزاكية‏:‏ البريئة من الذنوب‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ الزاكية‏:‏ التي لم تذنب، والزكية‏:‏ التي أذنبت ثم تابت‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الزاكية والزكية لغتان‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الزاكية والزكية‏:‏ مثل القاسية والقسية، ومعنى ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏‏:‏ بغير قتل نفس محرّمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً ‏{‏لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً‏}‏ أي‏:‏ فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع‏.‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ أنكر من الأمر الأوّل لكون القتل لا يمكن تداركه، بخلاف نزع اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه، وقيل‏:‏ النكر أقلّ من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة‏.‏

قيل‏:‏ استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس، ولم يتأول للخضر بأنه يحلّ القتل بأسباب أخرى ‏{‏قَالَ‏}‏ الخضر ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً‏}‏ زاد هنا لفظ «لك»، لأن سبب العتاب أكثر، وموجبه أقوى، وقيل‏:‏ زاد لفظ «لك» لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه‏:‏ لك أقول وإياك أعني ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا‏}‏ أي‏:‏ بعد هذه المرة، أو بعد هذه النفس المقتولة ‏{‏فَلاَ تُصَاحِبْنِى‏}‏ أي‏:‏ لا تجعلني صاحباً لك، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره، ولذا قال‏:‏ ‏{‏قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً‏}‏ يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرّات، وهذا كلام نادم شديد الندامة، اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف‏.‏ قرأ الأعرج ‏(‏تصحبني‏)‏ بفتح التاء والباء وتشديد النون‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تصاحبني‏}‏ وقرأ يعقوب ‏(‏تصحبني‏)‏ بضم التاء وكسر الحاء، ورواها سهل عن أبي عمرو‏.‏ قال الكسائي‏:‏ معناه لا تتركني أصحبك‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏لدني‏}‏ بضم الدال إلا أن نافعاً وعاصماً خففا النون، وشددها الباقون‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏(‏لدني‏)‏ بضم اللام وسكون الدال‏.‏ قال ابن مجاهد‏:‏ وهي غلط‏.‏ قال أبو عليّ‏:‏ هذا التغليط لعله من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فصحيحة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏عذراً‏}‏ بسكون الذال‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر بضم الذال‏.‏ وحكى الداني أن أبيا روى عن النبيّ بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه‏.‏ ‏{‏فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ‏}‏ قيل‏:‏ هي أيلة؛ وقيل‏:‏ أنطاكية؛ وقيل‏:‏ برقة؛ وقيل‏:‏ قرية من قرى أذربيجان؛ وقيل‏:‏ قرية من قرى الروم ‏{‏استطعما أَهْلَهَا‏}‏ هذه الجملة في محل الجر على أنها صفة لقرية، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد، أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم ‏{‏فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا‏}‏ أي‏:‏ أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما، فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحلّ الكدية فقد أخطأ خطأً بيناً، ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس‏:‏

فإن رددت فما في الرد منقصة *** عليّ قد ردّ موسى قبل والخضر

وقد ثبت في السنّة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة ‏{‏فَوَجَدَا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في القرية ‏{‏جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ‏}‏ إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة، ومنه قول الراعي‏:‏

في مهمه فلقت به هاماتها *** فلق الفؤوس إذا أردن نصولا

ومعنى الانقضاض‏:‏ السقوط بسرعة، يقال‏:‏ انقضّ الحائط إذا وقع، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء، ومعنى ‏{‏فأقامه‏}‏‏:‏ فسوّاه، لأنه وجده مائلاً فردّه كما كان؛ وقيل‏:‏ نقضه وبناه؛ وقيل‏:‏ أقامه بعمود‏.‏

وقد تقدّم في الحديث الصحيح أنه مسحه بيده ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ أي‏:‏ على إقامته وإصلاحه، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الأجر‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر، قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وابن كثير، وابن محيصن، واليزيدي، والحسن ‏(‏لتخذت‏)‏ يقال‏:‏ تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل‏:‏ اتخذ‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏لاتخذت‏}‏‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ الخضر ‏{‏هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏}‏ على إضافة ‏{‏فراق‏}‏ إلى الظرف اتساعاً، أي‏:‏ هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ هذا فراق بيننا، أي‏:‏ هذا فراق اتصالنا، وكرّر «بين» تأكيداً، ولما قال الخضر لموسى بهذا، أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال‏:‏ ‏{‏سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏ والتأويل‏:‏ رجوع الشيء إلى مآله‏.‏ ثم شرع في البيان له فقال‏:‏ ‏{‏أَمَّا السفينة‏}‏ يعني‏:‏ التي خرقها ‏{‏فَكَانَتْ لمساكين‏}‏ لضعفاء لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم ‏{‏يَعْمَلُونَ فِى البحر‏}‏ ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين ‏{‏فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا‏}‏ أي‏:‏ أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها ‏{‏وَكَانَ ورائهم ملك‏}‏ قال المفسرون‏:‏ يعني أمامهم، ووراء يكون بمعنى‏:‏ أمام، وقد مرّ الكلام على هذا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أراد خلفهم، وكان طريقهم في الرجوع عليه، وما كان عندهم خبر بأنه ‏{‏يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً‏}‏ أي‏:‏ كل سفينة صالحة لا معيبة، وقد قرئ بزيادة «صالحة»، روي ذلك عن أبيّ وابن عباس‏.‏ وقرأ جماعة بتشديد السين من مساكين، واختلف في معناها، فقيل‏:‏ هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة، والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا الغلام‏}‏ يعني‏:‏ الذي قتله ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ ولم يكن هو كذلك ‏{‏فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ يرهق الغلام أبويه، يقال‏:‏ رهقه أي‏:‏ غشيه، وأرهقه أغشاه‏.‏ قال المفسرون‏:‏ معناه خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه، وهو الكفر، و‏{‏طُغْيَانًا‏}‏ مفعول يرهقهما ‏{‏وَكُفْراً‏}‏ معطوف عليه، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فخشينا أن يرهق الوالدين طغياناً عليهما وكفراً لنعمتهما بعقوقه‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏فخشينا‏}‏ من كلام الله، ويكون المعنى‏:‏ كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا ضعيف جدّاً، فالكلام كلام الخضر‏.‏ وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة، فقيل‏:‏ إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره؛ وقيل‏:‏ كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك، ويكون معنى ‏{‏فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً‏}‏‏:‏ أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدّي ذلك إلى الكفر والارتداد‏.‏

والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوّغ له ذلك، وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ، فقيل‏:‏ إن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما، وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه، فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحلّ في الشريعة المحمدية، ولكنه حلّ في شريعة أخرى، فلا إشكال‏.‏ وقد ذهب الجمهور إلى أن الخضر كان نبياً ‏{‏فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بسكون الباء وتخفيف الدال، والمعنى‏:‏ أردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولداً خيراً منه ‏{‏زكواة‏}‏ أي‏:‏ ديناً وصلاحاً وطهارة من الذنوب ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ قرأ ابن عباس، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وابن عامر ‏(‏رحماً‏)‏ بضم الحاء‏.‏ وقرأ الباقون بسكونها، ومعنى الرحم‏:‏ الرحمة، يقال‏:‏ رحمه الله رحمة ورحمى، والألف للتأنيث‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا الجدار‏}‏ يعني‏:‏ الذي أصلحه ‏{‏فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة‏}‏ هي القرية المذكورة سابقاً، وفيه جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا‏}‏ قيل‏:‏ كان مالاً جسيماً كما يفيده اسم الكنز، إذ هو المال المجموع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه‏:‏ المال المدفون، فإذا لم يكن مالاً قيل‏:‏ كنز علم وكنز فهم؛ وقيل‏:‏ لوح من ذهب، وقيل‏:‏ صحف مكتوبة ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا‏}‏ فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما، قيل‏:‏ هو الذي دفنه؛ وقيل‏:‏ هو الأب السابع من عند الدافن له، وقيل‏:‏ العاشر ‏{‏فَأَرَادَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له ‏{‏أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا‏}‏ أي‏:‏ كمالهما وتمام نموّهما ‏{‏وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا‏}‏ من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولو انقضّ لخرج الكنز من تحته ‏{‏رَحْمَةً مّن رَّبّكَ‏}‏ لهما، وهو مصدر في موضع الحال أي‏:‏ مرحومين من الله سبحانه ‏{‏وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى‏}‏ أي‏:‏ عن اجتهادي ورأيي، وهو تأكيد لما قبله، فقد علم بقوله فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه ‏{‏ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏ أي‏:‏ ذلك المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها تأويل ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه، ومعنى التأويل هنا‏:‏ هو المآل الذي آلت إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من ‏{‏تسطع‏}‏ تخفيفاً‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏ يقول‏:‏ نكراً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِمْراً‏}‏ قال‏:‏ عجباً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبيّ بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ‏}‏ قال‏:‏ لم ينس، ولكنها من معاريض الكلام‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ كان الخضر عبداً لا تراه الأعين، إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام‏.‏ وأقول‏:‏ ينبغي أن ينظر من أين له هذا‏؟‏ فإن لم يكن مستنده إلا قوله‏:‏ ولو رآه القوم إلخ، فليس ذلك بموجب لما ذكره، أما أوّلاً‏:‏ فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام، لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم‏.‏ وأما ثانياً‏:‏ فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء، فسلموا لأمر الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏نَفْساً زكية‏}‏ قال‏:‏ مسلمة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ لم تبلغ الخطايا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن الحسن نحوه‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏شَيْئاً نُّكْراً‏}‏ قال‏:‏ النكر أنكر من العجب‏.‏ وأخرج أحمد، عن عطاء قال‏:‏ كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان، فكتب إليه‏:‏ إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم‏.‏ وزاد ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه‏:‏ ولكنك لا تعلم، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم فاعتزلهم‏.‏ وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن مردويه، عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» وأخرج أبو داود، والترمذي، وعبد الله بن أحمد والبزار، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، عن أبيّ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ ‏{‏مِن لَّدُنّى عُذْراً‏}‏ مثقلة‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏أَن يُضَيّفُوهُمَا‏}‏ مشدّدة‏.‏

وأخرج ابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قرأ» فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ «فهدمه، ثم قعد يبنيه» قلت‏:‏ ورواية الصحيحين التي قدّمناها أنه مسحه بيده أولى‏.‏ وأخرج الفريابي في معجمه، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ «لَوْ شِئْتَ لتخذت عَلَيْهِ أَجْر» مخففة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رحمة الله علينا وعلى موسى‏.‏ لو صبر لقصّ الله علينا من خبره، ولكن قَال‏:‏ ‏{‏إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى‏}‏» وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ «وَكَانَ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً»‏.‏ وأخرج ابن الأنباري، عن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن أبي الزاهرية قال‏:‏ كتب عثمان «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً»‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، عن ابن عباس أنه كان يقرأ «وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال‏:‏ هي في مصحف عبد الله «فخاف ربك أن يرهقهما طغياناً وكفراً»‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏خَيْراً مّنْهُ زكواة‏}‏ قال‏:‏ ديناً ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ قال‏:‏ مودّة، فأبدلا جارية ولدت نبياً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا‏}‏ قال‏:‏ كان الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا، وحرّمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبنّ الرجل، فيقول‏:‏ فما شأن الكنز، أحلّ لمن قبلنا وحرّم علينا‏؟‏ فإن الله يحلّ من أمره ما يشاء ويحرّم ما يشاء، وهي السنن والفرائض، يحلّ لأمة ويحرّم على أخرى‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا‏}‏ قال‏:‏ «ذهب وفضة»‏.‏ وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا‏}‏ قال‏:‏ أحلت لهم الكنوز وحرّمت عليهم الغنائم، وأحلّت لنا الغنائم وحرّمت علينا الكنوز‏.‏

وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال‏:‏ إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه‏:‏ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏ وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة‏.‏ وأخرج ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وأحمد في الزهد، والحميدي في مسنده، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا‏}‏ قال‏:‏ حفظاً بصلاح أبيهما‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله عزّ وجلّ يصلح بصلاح الرجل الصالح، ولده، وولد ولده، وأهل دويرته وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده، وولد ولده، ويحفظه في دويرته، والدويرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق الحسن بن عمارة عن أبيه قال‏:‏ قيل لابن عباس‏:‏ لم نسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ قال فيما يذكر من حديث الفتى‏:‏ إنه شرب من الماء فخلد، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ إسناده ضعيف، الحسن متروك وأبوه غير معروف‏.‏